فصل: تفسير الآيات (25- 29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (19- 24):

{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ} مناسبة هذه الآية لما قبلها، هي أن اللّه سبحانه وتعالى ذكر في الآيات السابقة، الأعمى والبصير، والظلمات والنور، والزبد وما ينفع الناس.. وهى أمور متضادّة، كتضاد الشر والخير، والضلال والهدى.. كذلك الذين نظروا في آيات اللّه فعرفوا أنها الحق من اللّه، وأنها تنزيل من حكيم خبير، والذين عميت أبصارهم عن هذه الآيات، فلم يروا منها شيئا يهديهم إلى اللّه- هما عالمان متضادان.. هؤلاء مبصرون، وأولئك عمى لا يبصرون! والاستفهام في الآية الكريمة مراد به التقريع والتسفيه لأهل الشرك والضلال، الذين عميت بصائرهم عن التهدّى إلى الحق، على ضوء ما تلا عليهم الرسول الكريم من آيات اللّه.
وفى قوله تعالى: {إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ} هو تنويه بالمؤمنين الذين قادتهم عقولهم إلى الحق، فعرفوا اللّه، وآمنوا به، كما أنه تعريض بالمشركين واتهام لهم بالسّفه، والغفلة، وأنهم ليسوا من أصحاب العقول العاملة المبصرة! قوله تعالى: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ} هو صفة لأولى الألباب، أصحاب العقول المبصرة، والبصائر المدركة.
وعهد اللّه الذي يوفون به، هو كل عهد يقطعونه على أنفسهم للّه، أو للنّاس، وقد جعلوا اللّه كفيلا عليهم فيما أعطوا من عهد.. فالمؤمنون باللّه حقّا هم الذين إذا أعطوا مثل هذا العهد من أنفسهم، برّوا به ووفوا، وأبى عليهم إيمانهم، وولاؤهم للّه أن يعطوا عهدا باسمه، ثم يغدروا به وينقضوه، فذلك مما لا يتفق مع الولاء للّه، والإكبار لذاته، فضلا عن أنه حطّة بالكرامة الإنسانية، وإزراء بقدر الإنسان، وإسقاط لمروءته. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ} [91: النحل] وأما الميثاق الذي لا ينقضونه، فهو الميثاق الذي أخذه اللّه سبحانه وتعالى على أبناء آدم وهم في عالم الأرواح، كما يقول سبحانه وتعالى {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا} [172: الأعراف] وهذا الميثاق الذي أخذه اللّه على أبناء آدم، هو ما أودع فيهم من فطرة سليمة، من شأنها أن تتهدّى إلى اللّه، وتعرف طريقها إليه، وتؤمن به، لو أنها تركت وشأنها، دون أن يدخل عليها ما يفسدها، من وساوس الشيطان، وغوايات المغوين، وضلالات المضلّين.
وهذا ما يشير إليه قول الرسول الكريم: {ما من مولود إلا يولد على الفطرة وإنما أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسّانه} ثم بعد هذا الميثاق، جاء ميثاق آخر يؤكده، ويذكّر به، وهو دعوة الرسول لهم إلى الإيمان باللّه، وأخذه الميثاق عليهم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا} [7: المائدة] فنعمة اللّه هنا هي الرسول الذي جاءهم بكتاب اللّه إليهم، والميثاق هو ما أخذه الرسول عليهم عند بيعتهم له على الإيمان، حين قالوا:
{سمعنا وأطعنا} وإلى هذين الميثاقين- ميثاق اللّه، وميثاق الرسول- يشير اللّه سبحانه وتعالى بقوله: {وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [8: الحديد].. ففى هذه الآية ينكر اللّه سبحانه وتعالى على المتوقفين عن الإيمان، أو المعرضين عنه، هذا الموقف.
إذ ما كان لهم أن يترددوا في الإيمان باللّه، أو يعرضوا عن الإيمان به، ورسول اللّه يدعوهم إلى اللّه، ويذكرهم به، ويقدم لهم بين يديه كتابا من عنده.. هذا إلى الميثاق الذي أخذه اللّه عليهم من قبل وهم في عالم الأرواح، وهذا الميثاق هو الفطرة المودعة فيهم، وهى وحدها كانت كافية لأن يتعرفوا إلى اللّه ويؤمنوا به، إن كانت هذه الفطرة قد بقيت سليمة فيهم، مهيأة لقبول الإيمان: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي إن كنتم ما زلتم على فطرتكم التي فطركم اللّه عليها.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ} هو بيان لصفات أخرى من صفات المؤمنين، بعد أن تأكد إيمانهم باللّه، ووفاؤهم بعهوده ومواثيقه.. فقد مدحهم اللّه سبحانه وتعالى بأنهم {يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} والذي أمر اللّه- سبحانه- به أن يوصل، هو الإيمان.. فهم بإيمانهم باللّه بعد أن أصبحوا في عالم الأشباح، وصاروا أهلا للتكليف- هم بهذا قد وصلوه بإيمانهم الذي كان منهم وهم في عالم الأرواح.. وهذا ما أمر اللّه به أن يوصل، إذ كانت دعوة الرسل إلى الإيمان باللّه، دعوة إلى وصل هذا الإيمان، بإيمان الفطرة المستكنّ فيها.
ولهذا ذمّ اللّه سبحانه الكافرين بأنهم قطعوا ما أمر اللّه به أن يوصل، فخانوا بهذا، عهد اللّه، ونقضوا ميثاقه، وفى هذا يقول الحق جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ} [26- 27 البقرة].. ويقول سبحانه: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [25: الرعد] فالكافرون قد نقضوا عهد اللّه الذي معهم، بعد أن جاءهم رسله ليوثّقوه، ويذكّروا به، وهم بهذا الكفر قطعوا ما أمر اللّه به أن يوصل، وهو أن يصلوا إيمان الفطرة المركوز فيهم، بإيمان الدعوة على يد الرسل.. وهم بهذا الكفر قد أصبحوا أدوات هدم، وإفساد، في كيان المجتمع الإنسانى. كما يقول سبحانه.
وقوله تعالى: {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ} بيان لبعض صفات أخرى للمؤمنين، وهى أنهم يخشون ربهم، ويخافون سوء الحساب يوم القيامة، إذا جاءوا إلى هذا اليوم بما لا يرضى اللّه من سيئات ومنكرات، ولهذا، فهم يتجنبون السوء، ويجانبون المنكر، خشية للّه، وخوفا من سوء الحساب، يوم الحساب! قوله تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} هو أيضا بيان للصفات المكملة لتلك الأوصاف التي ينبغى أن تكون للمؤمنين باللّه.. إيمانا حقا.
فهم يصبرون ابتغاء وجه ربهم.. يصبرون على ما أصابهم من ضر، وما مسّهم من أذى، وما نزل بهم من مكروه، يرجون بهذا، الجزاء الحسن من اللّه على رضاهم بالمكروه، وصبرهم على الضر، إذ كان ذلك تسليما منهم بقضاء اللّه، وإيمانا بحقه سبحانه وتعالى في ملكه، يفعل ما يشاء، لا معقّب لحكمه.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ} [155: 156 البقرة] ففى الصبر على المكاره، تسليم للّه سبحانه وتعالى بما قضى به، وطمع في رحمته ولطفه {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ} [87: يوسف] وفى هذا يقول الرسول الكريم: «حفّت الجنة بالمكاره» إذ كان في استقامة الإنسان على طاعة اللّه، قهر لأهواء النفس، ومغالبة للشهوات.
وفى قوله تعالى: {ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} إشارة إلى أن متوجههم في احتمال الضر، والصبر على المكروه، إنما هو من أجل الظفر برضا اللّه عنهم.
إذ كان ذلك هو مبتغاهم من احتمال المكاره، والوفاء بالتكاليف الشرعية، من عبادات، ومعاملات وغيرها.. فالمراد بوجه ربهم هنا، هو إقباله- سبحانه وتعالى عليهم- وقبوله لهم.
وفى قوله تعالى: {وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} هو عطف خاص على عام، إذ كان الصبر جامعا لجميع التكاليف الشرعية، ومنها إقامة الصلاة، والإنفاق في السر والعلن، ودفع السيئة بالحسنة.. فهذه كلها مما لا يقوم بالوفاء بها إلا من رزقه اللّه الصبر والاحتمال.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى عن الصلاة: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها} [122: طه] وما يشير إليه قوله سبحانه عن درء السيئة بالحسنة: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [34- 35: فصلت].
فالصبر هو ملاك كل طاعة، وميزان كل إيمان، وعقد كل عقيدة.
ولهذا جاء قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ} جاء جامعا بين الحق والصبر، إذ أنه لا يقوم حق إلا قام من ورائه الصبر.. إذ أنّ أكل حق يترصّد له الباطل، ويزحمه الضلال.. وتجلية الحق، ودفع الباطل عنه، يحتاج إلى مدد عظيم من الصبر والمصابرة.
قوله تعالى: {أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} الإشارة هنا ترجع إلى أولى الألباب، الذين عرفوا اللّه وآمنوا به، واتصفوا بتلك الأوصاف الكريمة التي عرضتها الآيات السابقة.. فهؤلاء لهم عقبى الدار.
والعقبى: العاقبة.. وعاقبة كل أمر خاتمته، وغايته.
والدار هنا: هي دار الدنيا.
{وعُقْبَى الدَّارِ} أي الخاتمة التي ختمت بها هذه الدار، وهى عمل كل عامل فيها، فمن عمل خيرا كانت عاقبته خيرا، ومن عمل سوءا كانت عاقبته بلاء ونكالا.
ولهذا جاء قوله تعالى: {لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} بإضافة العاقبة لهم، ولم يجعلها عليهم، بمعنى أن هذه العاقبة مما يملكه الإنسان ويحرص على اقتنائه، إذا كان خيرا.. على حين أن العاقبة إذا كانت شرا، نفر منها الإنسان، وحاول أن يفلت منها، ويوليها ظهره، ولكها تحمل عليه حملا.. وإلى هذا يشير قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ} [286: البقرة].
قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} هو بدل من قوله تعالى: {لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}.
أي أن عقبى الدار هذه هي {جَنَّاتُ عَدْنٍ} حيث تنتهى بالمؤمنين حياتهم الدنيا عند جنات عدن.. {يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} أي أن هذه الجنات التي يجدها المؤمنون عند انقطاع حياتهم الدنيا، هي لهم، مفتحة أبوابها، يدخلونها هم، ومن كان صالحا لدخولها من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم، وفى هذا أنس لهم جميعا، حيث يجتمع شملهم، ويكمل نعيمهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [21: الطور].
وفى قوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}.
بيان لما يدخل على المؤمنين من مسرّات، وهم في جنات النعيم.. إذ يحيّون فيها من ملائكة الرحمن، تحية ترحيب وتكريم: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ} وهم لا يدخلون عليهم من باب واحد، بل من أبواب كثيرة.. من يمين وشمال، وأمام، وخلف.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [44: الأحزاب] وقوله سبحانه: {أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً} [75: الفرقان].
وفى قوله تعالى: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ} من غير وصله بما قبله، إشارة إلى أن دخول الملائكة عليهم، هو في ذاته سلام وأمن، وهو تحية حيّة ولو لم ينطقوا بها.. ولهذا لم يجيء اللفظ القرآنى: يقولون {سلام عليكم} بل جاء هكذا: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ}.
وفى قوله تعالى: {بِما صَبَرْتُمْ} إشارة إلى أن الصّبر هو المطية الذّلول التي بلغت بالمؤمنين هذا المنزل الكريم، ونقلتهم من عالم الفناء إلى عالم البقاء والخلود في جنّات النعيم.. {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} أي فنعم عقبى الدار الدنيا، هذه الدار.. دار الآخرة..

.تفسير الآيات (25- 29):

{وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} هو بيان للوجه الآخر من وجهى الإنسانية، وهو وجه الكافرين، والمشركين والمنافقين.. الذين نقضوا عهد اللّه الذي أخذه عليهم الرسول، من بعد الميثاق الذي واثقهم اللّه عليه، وهم في عالم الأرواح.. وقد أشرنا إلى شرح هذه الآية من قبل: (الآية 21 من هذه السورة).
قوله تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ} مناسبة هذه الآية لما قبلها، هي أنه لما كانت الحياة الدنيا ومتاعها مما يفتن الناس، ويفسد عليهم فطرتهم، ويحجب عنهم وجه الحق، فيضل كثير منهم طريقه إلى اللّه.. لمّا كان هذا هو شأن الدنيا مع الناس، فقد جاء قوله تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ} منبها هؤلاء الضالّين المتكالبين على الدنيا، إلى أنهم لا يملكون لأنفسهم شيئا، وأن الأرزاق بيد اللّه سبحانه- يبسطها لمن يشاء، ويقدرها أي يقبضها، ويمسكها عمن يشاء، وأنّ تخبطهم في طرق الضلال، وركوبهم مراكب النفاق لا ينفعهم في شيء، ولا ينيلهم من الدنيا إلا ما قدّره اللّه لهم.
وفى قوله تعالى: {وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا} هو تشنيع على الضالّين، واستخفاف بهم، وتسفيه لأحلامهم، إذ كان زخرف الحياة الدنيا، وهذا المتاع الزائل الذي وقع لهم منها- هو مبتغى مسعاهم فيها، ومبلغ حظهم منها، فإذا وقع لهم منها شيء طاروا به فرحا، ولو اغتال ذلك إنسانيتهم، وطمس على عقولهم وقلوبهم.
{أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ} [16: البقرة].
قوله تعالى: {وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ} إشارة إلى أن الحياة الدنيا هي مزرعة للآخرة، يتزود فيها الناس ليوم الفصل.. فمن كان زاده التقوى، ربح، وسعد، وفاز بنعيم الجنة ورضوان اللّه، ومن تزوّد بالذنوب والآثام، فقد خاب، وتعس، وكان لجهنم حطبا.
قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ}.
هو بيان لتعلّات الكافرين والضالّين، الذين يدعون إلى الإيمان باللّه، وتقرع أسماعهم كلمات اللّه، فلا يصيخون إليها، ولا يفتحون عقولهم وقلوبهم لها، بل يركبون رءوسهم، ويتنادون فيما بينهم: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} حتى لكأن هذه الآية التي يقترحونها هي اليد التي تشدّهم إلى الإيمان، وتفتح آذانهم وقلوبهم إلى اللّه.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ} [146: الأعراف].
وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ}.
هو ردّ على تعلّات هؤلاء الكافرين، وردع لهم، وأنهم لن يؤمنوا أبدا.
إذ أنهم لم يكونوا ممن أرادهم اللّه سبحانه للإيمان، ودعاهم إليه، لما علم من فساد طبيعتهم.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [23: الأنفال].. أما أهل الإيمان، فقد دعاهم اللّه سبحانه وتعالى إليه، ويسّر لهم الإيمان به، إذ كانوا على فطرة قابلة للخير، مستجيبة للحق، متهدّيه إلى الإيمان، واللّه سبحانه وتعالى يقول:
{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً} [17: محمد] ويقول سبحانه: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً} [77: مريم].
قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} هو بدل من قوله تعالى {مَنْ أَنابَ} يعنى أنه سبحانه يهدى من أناب إليه من عباده، أي رجع إليه، ووجه وجهه إلى رحابه.
وهؤلاء هم المؤمنون الذين استجابوا للّه والرسول واطمأنت قلوبهم بذكر اللّه.
وفى قوله تعالى: {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} إشارة إلى أن من علامات أهل الإيمان، أنهم إذا ذكروا اللّه، أو ذكّروا به، اطمأنت قلوبهم، واشتملت عليهم السكينة، وغشيهم الأمن والسلام.
وفى قوله تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} توكيد لهذا الخبر الذي تضمنه قوله تعالى {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ}.
وقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} هو توكيد لقوله تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.
حيث أن ذكر اللّه يقيم الإنسان على الإيمان باللّه، ويمسك به في مجال العمل الصالح، فيحيا حياة طيبة، يجد فيها الأمن والسكينة، فإذا كانت الآخرة، وجد ما عمل من صالحات حاضرا، فيسعد به ويهنأ.
والطوبى: مؤنث أطيب، وهو الحسن الجميل من كل شيء.
والمآب: المرجع، والمراد به يوم القيامة.
ذكر اللّه.. واطمئنان القلوب به:
{أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.
وذكر اللّه هو تذكره، في استحضار جلاله، وعظمته، وقدرته، وكل ما له- سبحانه- من صفات الكمال والجلال.. فإذا ذكر الإنسان ربّه، واستحضر جلاله وعظمته، كان من هذا الذكر في ظلّ ظليل، من جلال اللّه وعظمته، وفى حمّى لا ينال من حياطته، ورعايته، وفى عزة تصغر أمامها عزة كل عزيز في هذه الدنيا، إذ كان معتصمه هو اللّه القوىّ العزيز! {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [101: آل عمران].
فالذى يذكر اللّه وهو موقن به، طامع في رحمته، معتصم بجلاله، محتّم بحماه، لائد بفضله، عائد به، من هموم الدنيا، ومن ظلم الظالمين، وبغى الباغين- يجد ربا قريبا منه، سامعا دعاءه مستجيبا له، قال تعالى: {وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.
وقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}.
وقال جل شأنه {وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [186: البقرة].
وليس ذكر اللّه الذي تطمئن به القلوب، هو هذا الذكر الذي تردّده الألسنة ترديدا آليا، دون أن يكون منبعثا من القلب، دافئا بحرارة الإيمان، منطلقا بقوة اليقين- فمثل هذا الذكر لا يعدو أن يكون أصواتا مرددة، أشبه بالجثث الهامدة.. لا روح فيه، ولا معقول له.. ومن هنا تكون آفته، فلا يطمئن به قلب، ولا ينشرح به صدر.
أما الذكر الذي يقول فيه سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} ثم يؤكده بقوله: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} فهو الذكر الذي ينبعث عن إيمان، فتهتزّ له المشاعر، وتدفأ به الصدور، وتطمئن به القلوب.. ولهذا قدّم سبحانه الإيمان على الذكر.. حتى يكون للذكر أصل يرجع إليه، ومنطق بنطق منه، وهو الإيمان.. فإذا ذكر المؤمن باللّه ربّه، غرّدت في نفسه بلابل البهجة، وزغردت في صدره عرائس الرضا، واستولت عليه حال من الشجا الممزوج بالنشوة، حتى ليكاد يكون كلّه عاطفة ترفّ بجناحي الصبابة والوجد، وتحلّق في سماوات عالية، مشرقة بنور الحق، معطرة بأريج الصفاء والطهر.
ولا يكون الذكر للّه ذكرا يثمر هذه الثمرة، التي يطمئن بها القلب، إلا إذا انبعث من قلب عارف باللّه، مدرك لما ينبغى له سبحانه، من صفات الكمال والجلال، فذلك هو الذي يفيض على القلب خشية عند ذكر اللّه، وهو الذي يستثير مشاعر الولاء للّه، والإخبات له، فتقشعر الجلود، وتدمع العيون.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [2: الأنفال].. وقوله سبحانه: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [34- 35 الحج] وقوله جلّ شأنه {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ} [23: الزمر].
فإذا ذكر المؤمن ربه، وقد تلبست به تلك الحال، واستولت عليه هذه المشاعر، قرب من اللّه، ودنا من مواقع رحمته، وأحسّ برد السكينة يغمر قلبه، ووجد ريح الأمن والطمأنينة تهبّ عليه، معطرة الأنفاس، زاكية الأرواح.
إن الإنسان إذ يذكر حدثا من الأحداث، أو يستحضر صورة شخص من الأشخاص، له به علقة حب أو بعض، فإنه يجد في كيانه لهذا الذكر، ولذاك الاستحضار ما يهزّ كيانه، ويثير عواطفه، ويهيج أشجانه، أو يبعث مخاوفه.
وإلى هذا المعنى يشير الشاعر العربي في مدح أحد الخلفاء.. إذ يقول:
خليفة اللّه إن الجود أودية ** أحلّك اللّه منها حيث تجتمع

إن أخلف الغيث لم تخلف مواطره ** أو ضاق أمر ذكرناه فيتسع

والشاهد هنا في قوله: أو ضاق أمر ذكرناه فيتسع فهو يريد أن يقول:
إنه إذا نزل به ضيق، أو كربه كرب، وجرى ذكر الخليفة في خاطره، كان له من هذا سعة من ضيق، وخلاص من كرب، وراحة من عناء وهمّ.
ويروى أن قيس بن الملوح مجنون ليلى وهو في زحمة الحجيج بمنى، سمع إنسانا يهتف بمن اسمها ليلى، بل لعله عرف المجنون، فأراد أن يهيج لواعجه، ويحرك أشجانه، فهتف بهذا الاسم، كأنه يستدعى ابنة أو زوجا له.
وأيّا ما كان، فقد أثار هذا النداء بيا ليلى ثائرة المجنون، وحرك بلابل أشجانه، وعرته حال من الصبابة والوجد. كان وصفه لها في هذين البيتين، تصويرا لبعض ما استطاع أن يمسك به من مشاعره.. يقول المجنون:
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى فهيّج أشجان الفؤاد وما يدرى دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أهاج بليلى طائرا كان في صدرى!
هذا بعض ما تثير ذكريات الأحداث، وتذكّر الأشخاص، في مجال الخير والشر، وفى مقام الحبّ والبغض.. فكيف يكون الحال عند من يذكر اللّه، ويستحضر جلاله، وعظمته، وقدرته، وعلمه، وحكمته، وكل ما ينبغى له- سبحانه- من صفات الكمال والجلال؟
إن الذاكر للّه على تلك الصفة يجد نفسه في حضرة مالك الملك، القائم على هذا الوجود، والمصرّف لكل موجود.. وإذا هو في هذا المقام ذاهل عن كل ما عدا اللّه، مستخفّ بكل ما سواه، موقن بأن ما هو فيه من خير أو شر، هو مما قضى اللّه به، وأنه لا يكشف الضرّ إلا هو سبحانه، ولا يسوق الخير إلا هو جل شأنه، فوعى قوله سبحانه: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [17: الأنعام] وأخذ من ثمراتها الطيبة المباركة، زادا طيبا مباركا، فيه الشبع من كل جوع، والرىّ من كلّ ظمأ، والشفاء من كل داء.
فإذا ذكر الإنسان ربّه هذا الذكر الذي يدنيه من ربه، والذي يشهد منه ما يشهد من جلال اللّه، وعظمته، وقدرته، ارتفع عن هذا العالم الترابىّ، واستصغر كل شيء فيه، فلا يأسى على فائت، ولا يطير فرحا، ولا يأشر بطرا، بما يقع ليديه من حطام هذه الدنيا.. وهذا هو الاطمئنان الذي يسكن به القلب وتقرّ العين.. حيث لا حزن، ولا جزع، ولا خوف!! {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.
ذلك أن الداء الذي يغتال أمن الناس، ويقضّ مضاجعهم- هو ما يدخل عليهم من هموم الدنيا، وما يشغلهم من توقعات الأمور فيها.. وإنه لا دواء لهذا الداء إلا باللّجأ إلى اللّه، والفزع إليه، وذلك بذكره، وتذكّر سلطانه المبسوط على هذا الوجود، وأمره القائم على كل موجود.. {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ}.
وفى قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ}.
وفى التعبير عن الإيمان بالفعل الماضي {آمنوا} وعن الاطمئنان بفعل المستقبل {تطمئن} في هذا إشارة إلى أن الإيمان حال لا يتحول عنها المؤمن، وأنه لا بوصف بالإيمان إلا إذا كان مؤمنا.. على خلاف الاطمئنان، فإنه غير ملازم للمؤمن في كل حال، وإنما يقع الاطمئنان عند ذكّر اللّه، وكلما ذكر المؤمن ربه، حين تعرض له عوارض الفلق والجزع.
وهنا، نود أن نشير إلى أن ذكر اللّه الذي يمنح القلب اطمئنانا وأمنا، يحسن أن يكون منظورا فيه إلى صفة من صفات اللّه، المناسبة لتلك الحال العارضة، التي أزعجت الطمأنينة عن القلب، وأطارت السكينة والأمن من الجوانح..!
فإذا كان الإنسان في مواجهة مرض، مثلا.. في نفسه، أو نفس من يحب. ذكر اللّه الرحمن الرحيم، وذكر قدرته على كشف هذا الضر، ورفع هذا السوء! وإذا كان في يد سلطان جائر، أو عدوّ متسلط قاهر، ذكر اللّه القوىّ القاهر، الجبار المنتقم.. فأراه ذلك ضآلة هذا السلطان، وصغر شأن هذا العدو.
وهكذا يذكر للذاكر ربّه، فيرى في وجهه الكريم، الصفة التي يتجلّى بها عليه، فإذا هي السكن لجوارحه، والدواء لدائه، والطمأنينة لقلبه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها} [180: الأعراف] فبالاسم الذي ندعو اللّه به، يتجلّى به اللّه- سبحانه- علينا، فنرى في سنا وجهه الكريم، غيوث رحمته، ومواطر فضله ورضوانه.
ولعله من المناسب أن نذكر هنا قول اللّه تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [152: البقرة]: فاللّه سبحانه وتعالى لا ينسى، حتى يذكر فيذكر.
بل هو جل شأنه يذكرنا دائما، ذكرناه أو لم نذكره.. ولكن المراد بذكره لنا هنا إذا ذكرناه، هو أننا إذا ذكرناه وجدناه سبحانه حاضرا في قلوبنا وعقولنا.. وأننا إذا لم نذكره، فهو سبحانه حاضر كذلك، ولكن هذا الحضور لا نحسّ به، ولا ننأثر له.
فإذا ذكر المؤمن ربّه، وجد ربه تجاهه.. وكأنه بتفلّته عن ذكر ربه قد بعد عن اللّه، فإذا ذكر ربّه، وأشرق عليه بنوره السنىّ البهىّ.. وفى الحديث القدسي: «من تقرب إلىّ شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إلىّ ذراعا تقربت إليه باعا، ومن أتانى يمشى أتيته هرولة».
فذكر اللّه، وامتلاء القلب بهذا الذكر، يفيض على الذاكر أنوارا من جلال اللّه وبهائه، وإذا هو في حمّى عزيز لا ينال، وفى ضمان وثيق من أن يهون أو يذلّ لغير اللّه الواحد القهار.
وأسمى الذكر وأكمله، هو ذكر العارفين باللّه، معرفة يطلعون منها على ما يملأ قلوبهم جلالا وخشية للّه، حيث يشهدون من كمالات اللّه ما لا يشهده إلا المقربون، الذي رضى اللّه عنهم ورضوا عنه.. كما يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا}.
فهذا الودّ إنما يناله أولئك الذين يذكرون اللّه فيذكرهم للّه، ويعرفونه فيعرفهم.. {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا}.
.. فهذا الذكر المستبصر، هو الذي يضيء الطريق الذي يسلكه الذاكر إلى ربه، فيرى على ضوء هذا النور، قدرة الخالق وجلاله، وعظمته، فيخشع قلبه وتسكن وساوسه.
فالذكر- كما قلنا- ليس مجرد كلمات يرددها اللسان، وإنما هو نبضات قلب معمور بالإيمان باللّه، وخفقات وجدان ريّان بالرجاء في اللّه، والطمع في فضله وإحسانه، وذلك بعد أن يعرف المرء ربّه، ويعرف ما ينبغى له سبحانه من كمالات.
والرجاء الذي يقوم على غير إيمان، ويستند إلى غير طاعة، هو مكر باللّه، وخداع للنفس، وعدوان على سنن الحياة التي أقام اللّه عباده عليها، فجعل لكل عامل عمله، ولكل غارس ثمرة ما غرس!.
وحسن أن يحسن العبد ظنه بربه، بل وأن يبالغ ما شاء في هذا الظن، ولكن شريطة أن يكون ذلك الظن نابعا من الإيمان باللّه، ومستندا على ما يجد العبد من شواهد القرب من ربه.. فهنا يحق له أن يتمنى على ربه، وأن يدلّ دلال المحبوب مع محبوبه.. وفى الحديث الشريف: «ربّ أشعث أغبر لو أقسم على اللّه لأبرّه».
وفى الخبر الثابت أن البراء بن مالك وهو أخو أنس بن مالك كان ممن يقسم على اللّه فيبرّ اللّه قسمه، وكان المسلمون إذا اشتدت عليهم الحرب في قتال المشركين، يقولون: يا براء.. أقسم على ربك فيقسم على ربه فينتصرون!.
والدعاء، هو من ذكر اللّه.. حيث يوجّه الداعي وجهه إلى اللّه، طالبا اللجأ إليه، والمدد من إحسانه وفضله.. يقول ابن قيم الجوزية في تفسيره المسمى: التفسير القيم: إن الدعاء هو ذكر للمدعو سبحانه، متضمن للطلب منه، والثناء عليه بأسمائه وأوصافه، فهو- أي الدعاء- ذكر وزيادة كما أن الذكر سمىّ دعاء لتضمنه الطلب، كما قال صلى اللّه عليه وسلم: «أفضل الدعاء: الحمد للّه» فسمّى الحمد دعاء، وهو ثناء محض، لأن الحمد يتضمن الحب والثناء، والحب أعلى أنواع الطلب للمحبوب!.
ثم يقول ابن القيم: وتأمل كيف قال تعالى في آية الذكر: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} وفى آية الدعاء: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} فذكر التضرع فيهما معا، وهو التذلل والتمسكن، والانكسار، وهو روح الذكر والدعاء.
وخص الذكر بالخفية لحاجة الذكر إلى الخوف، فإن الذكر يستلزم المحبة ويثمرها ولابدّ، فمن أكثر من ذكر اللّه أثمر له ذلك محبته، والمحبة ما لم تقترن بالخوف، فإنها لا تنفع صاحبها، بل تضره، لأنها توجب الإدلال والانبساط وربما آلت بكثير من الجهال المغرورين إلى أنهم استغنوا بها عن الواجبات، وقالوا: المقصود من العبادات إنما هو عبادة القلب، وإقباله على اللّه ومحبته له، وتأليهه له.. فإذا حصل المقصود، فالاشتغال بالوسيلة باطل! فإن من سلك هذا المسلك انسلخ عن الإسلام العام كانسلاخ الحبة عن قشرها.
وسبب هذا، عدم اقتران الخوف من اللّه، بحبه وإرادته أي كونه مريدا له.
ولهذا قال بعض السلف: من عبد اللّه بالحب وحده، فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده، فهو حرورى ومن عبده بالرجاء وحده، فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء، فهو مؤمن.
وقد جمع اللّه تعالى هذه المقامات الثلاثة في قوله سبحانه: {أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ} فابتغاء الوسيلة هو محبته الداعية إلى التقرب إليه.. ثم ذكر بعدها الرجاء والخوف!.
وبعد فإن ذكر اللّه بالقلب واللسان، هو خير زاد يتزود به الإنسان في رحلة الحياة، وخير رفيق يؤنسه في طريقه الموحش، حيث يجد في جوار اللّه الأنس، حين يستوحش الناس، ويجد الشبع والرىّ إذا أجدب الناس، وكلب الزمان.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى}.